أبو الحسن الندوي- جذور الفكر الإسلامي وتأثيره في سيد قطب والمودودي.

المؤلف: علي العميم08.16.2025
أبو الحسن الندوي- جذور الفكر الإسلامي وتأثيره في سيد قطب والمودودي.
كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" لأبي الحسن الندوي، كان بمثابة صرخة مدوية تتحدى رؤى المستشرقين والباحثين الغربيين، وتستفز حتى المسلمين المتأثرين بالفكر الغربي، بل وحتى أولئك الذين يتسمون بالاعتدال والإنصاف. الكتاب كان مملوءًا بعزيمة راسخة لإعادة الثقة والفخر بالإسلام وتاريخه وثقافته وحضارته إلى نفوس المسلمين الذين شعروا بالضعف والدونية أمام الحضارة الغربية. لقد سعى إلى بث روح الاعتزاز بالنفس وتنمية الشعور بالتفوق على الحضارة الغربية وكل ما يرتبط بها من عقائد وتواريخ وثقافات وشعوب أخرى. هذا الكتاب كان بمثابة إعلان انفصال عن الفكر الإسلامي الإصلاحي التحديثي، ورفض واضح للتيار السائد في الكتابة الإسلامية خلال النصف الأول من القرن العشرين وما قبله. الأمر اللافت هو أن الكتاب لم يصدر عن دار نشر دينية متخصصة، بل عن لجنة التأليف والترجمة والنشر التي كان يرأسها أحمد أمين، والتي كانت تعتبر من أبرز دور النشر في مصر والعالم العربي في ذلك الوقت. هذا الاختيار ساهم في انتشار الكتاب على نطاق أوسع. على الرغم من أن الكتاب، الذي صدر في أواخر عام 1950 بمقدمة باهتة كتبها أحمد أمين، لم يلقَ اهتمامًا كبيرًا من الأدباء والمثقفين المصريين المتحررين، إلا أنه حظي بترحيب حافل من جماعة الإخوان المسلمين والمهتمين بالشأن الديني في مصر. وقد تأكد ذلك من خلال زيارة قام بها أبو الحسن الندوي إلى مصر في أوائل عام 1951، بعد أشهر قليلة من صدور كتابه. ومن مظاهر هذا الترحيب، طلب الدكتور محمد يوسف موسى، الأستاذ في كلية أصول الدين بالأزهر، من الندوي أن تقوم جماعة الأزهر للتأليف والترجمة والنشر، التي كان يرأسها، بإصدار طبعة ثانية من الكتاب. وقد ظهرت هذه الطبعة عام 1953، بمقدمة كتبها سيد قطب، ومقدمة ثانية كتبها الدكتور محمد يوسف موسى، وثالثة كتبها أحمد الشرباصي. تم حذف مقدمة أحمد أمين من هذه الطبعة بناءً على رغبة المؤلف، الذي استجاب لرأي العديد من رفاقه الدينيين في العالم العربي الذين رأوا أنها لم تُضف إلى الكتاب بل انتقصت من قيمته. وقد تبنى هذا الرأي أيضًا شخصية سياسية بارزة في العالم العربي، وهو الملك عبدالله بن الحسين. ففي أول لقاء جمعه بأبي الحسن الندوي في عمان عام 1951، قدم له نسخة من كتابه. وفي اللقاء الثاني، دار بينهما حوار أشار فيه الملك إلى أن مقدمة أحمد أمين كانت "غمزة" أساءت إلى الكتاب، وأن الكتاب في غنى عنها. وأكد الملك أنه لا يمكن أن يتحمس لكتابة مقدمة لهذا الكتاب إلا من يؤمن بأن الإسلام وحده له الحق في السيادة والحكم في العالم، وأن الإنسانية لا يمكن أن تسعد إلا في ظل حكم الإسلام وقيادته. كتابة سيد قطب لمقدمة الكتاب جاءت بطلب من الندوي نفسه، وذلك خلال لقاء جمعهما في منزل قطب بحلوان، بمناسبة مناقشة الكتاب في الندوة العلمية التي كان يعقدها قطب. وقد اختار الندوي سيد قطب تحديدًا لأنه كان قد قرأ كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" ووجد فيه أسلوبًا جديدًا في الكتابة والبحث والعرض لم يجده في كتابات الكتاب الإسلاميين الآخرين. وقد استعان سيد قطب فيما بعد بكتاب الندوي في كتبه اللاحقة، وكثيرًا ما كان يعود إليه وينقل عنه. حظي كتاب الندوي بإقبال واسع في أوساط الإخوان المسلمين في سوريا، وقد تأكد ذلك من خلال زيارة قام بها المؤلف إلى هذا البلد في منتصف عام 1951. وقد وصف محمد المبارك الكتاب بأنه واحد من أفضل الكتب التي صدرت في ذلك القرن، مشيرًا إلى أنه في السابق كانوا يقرأون كتبًا للدفاع عن الإسلام تعتمد على أقوال الأوروبيين، بينما جاء كتاب الندوي ليفند الحضارة الأوروبية نفسها ويفضح معاييرها. يعزو الدكتور أحمد الموصللي في كتابه "الفكر الإسلامي المعاصر" الكثير من أفكار الأصوليين إلى محمد أسد، معتبرًا إياه الأب الروحي للأصولية الحديثة. ويستند في ذلك إلى أنه كتب قبل المودودي وقطب والبنا، وأن الأصوليين تأثروا به وذكروه في كتبهم، بل إن بعضهم اقتبس من كتاباته، مثل سيد قطب وأبي الأعلى المودودي. هذا الكلام صحيح من جهة وغير دقيق من جهة أخرى. هو صحيح، ويمكن إضافة شاهد ثالث أغفله الموصللي، وهو أن أبا الحسن الندوي، وهو من مؤسسي الفكر الإسلامي في طوره الأصولي، قد ذكر ذلك في موضعين في كتابه "كتب وشخصيات"، الأول في معرض حديثه عن سيد قطب، والثاني عند حديثه عن كتاب "الإسلام على مفترق الطرق". وهو غير دقيق في إدخال أبي المودودي ضمن الأبناء وفي ادعائه أن أسد كتب قبل المودودي، فالمودودي شريك في الأبوة، وأصل الكثير من أفكار الأصوليين ترجع إليه أكثر مما ترجع إلى محمد أسد. فمحمد أسد نشر كتابه باللغة الإنجليزية عام 1934، بينما كان أبو الأعلى المودودي ينشر مقالاته في مجلته "ترجمان القرآن" الشهرية منذ عام 1932 إلى عام 1938، والتي نُشرت فيما بعد في عام 1939 في صورة كتاب أسماه "التنقيحات" باللغة الأوردية. المنحى الأصولي في فهم الإسلام كان حاضرًا في مؤلفات المودودي منذ بداياته الأولى، مثل كتاب "مصدر قوة المسلم" وكتاب "الجهاد في الإسلام" الذي بدأ في تأليفه عام 1926. هذه المعلومات عن بواكير مؤلفات المودودي وترجماته، والتي أُخذت من كتاب "أبو الأعلى المودودي: حياته ودعوته" لأليف الدين الترابي، تؤكد أنه كان نابغة منذ صغره. وقد أكسبته هذه الموهبة المبكرة صفة متفردة عند المستشرق ولفرد كانتويل سميث الذي وصفه بأنه المفكر الشمولي الذي يمتلك جهازًا فكريًا كاملاً في الإسلام الحديث. وفيما يخالف الدكتور الموصللي جزئيًا فيه، فإن مرجعنا هو أبي الحسن الندوي، الذي يصغر محمد أسد بأربعة عشر عامًا ويصغر المودودي بأحد عشر عامًا، وهو على معرفة شخصية بهما، وهو إضافة إلى هذا من المؤسسين الرئيسيين للفكر الإسلامي في طوره الأصولي. يشير أبو الحسن الندوي في كتابه "شخصيات وكتب" إلى أن الكتاب المسلمين في مصر والهند وتركيا وإيران، بعد منتصف القرن التاسع عشر، اتبعوا أسلوبًا يمكن تسميته بالأسلوب الاعتذاري أو الدفاعي. ثم يذكر أن نقلة ثورية تمت بعد ذلك عن طريق محمد إقبال الذي وجد في شعره "كفر بالحضارة الغربية وتحدي زعمائها"، ثم "وجد هذا اللون في كتابات مسلم جديد، هو الأستاذ محمد أسد، ومسلم قديم، هو الأستاذ أبو الأعلى المودودي". وفي كتابه "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية..."، يقول: "لا بد من الاعتراف بقيمة الدور الذي لعبته الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان ومؤسسها أبو الأعلى المودودي في نقد الفكرة الغربية وأسس الفلسفة المادية التي قامت عليها الحضارة الغربية". ثم يشير إلى أن محمد أسد النمساوي وبعض المعدودين من الكتاب الإسلاميين كان لهم مثل هذا الدور. يشير الندوي إلى دور محمد أسد ودور المودودي على أساس أنهما دوران متعاصران ومتزامنان. وكان يجب على الدكتور أحمد الموصللي أن ينظر إلى اقتباس المودودي من كتاب محمد أسد "الإسلام على مفترق الطرق" على أنه جاء من باب تعزيز وجهة نظره والتنبيه للكتاب وإشاعة ذكره، وليس من باب التأثر به كما هو الأمر مع سيد قطب ومع الندوي الذي أغفل الموصللي ذكره تمامًا، وذكر كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" وكتبه الأخرى المؤثرة في الاتجاه الإسلامي الراديكالي، لأنه أراد أن يعمّي على مصدر ملحوظته ليدعي أنه هو صاحبها، مع أن الندوي تحدث صراحة عن تأثره بمحمد أسد. وكان من خلال كتابه المذكور آنفًا، ملهماً لسيد قطب. إن محمد أسد الذي قال الموصللي إن الأصوليين قد تأثروا به، هو متأثر بعد إسلامه على نحو ما، بالإسلام الهندي وليس بالإسلام العربي. ذلك أن الإسلام العربي قبل منتصف القرن الماضي وبعده ليس فيه من التنظير ما يغريه ويضيف إليه شيئاً كمثقف معاصر، ولا تتوفر فيه تجربة سياسية، تجسد مشروعه المثالي بالحلم بدولة إسلامية أصولية معاصرة، وهي الدولة التي راهن على إمكانية قيامها في باكستان لا في السعودية! وهو كذلك في تحوله من إسلامية أصولية إلى إسلامية عقلانية متأثر بهذا التيار في الإسلام الهندي. كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" للمفكر الإسلامي البارز أبي الحسن الندوي، يمثل صرخة مدوية في وجه التوجهات الفكرية السائدة آنذاك. كان عنوانه بمثابة تحدٍ سافر لرؤى المستشرقين والباحثين الغربيين المهتمين بدراسة الإسلام، وكذلك للمثقفين العرب والمسلمين المتأثرين بالفكر الغربي، وحتى للمفكرين الذين اتسموا بالحيادية والاعتدال. لقد كان الكتاب مشحونًا برغبة جامحة في استعادة ثقة المسلمين بأنفسهم، وتعزيز اعتزازهم وفخرهم بعقيدتهم الإسلامية، وبتاريخهم الزاخر، وثقافتهم الغنية، وحضارتهم العريقة. كان الهدف الأسمى من وراء هذا العمل هو دحض الشعور بالضعف والدونية الذي تملك الكثيرين أمام سطوة الحضارة الغربية، وبث روح الاستعلاء الفكري، وترسيخ إحساس بالتفوق على هذه الحضارة، وعلى جميع الحضارات الأخرى، بشعوبها ومعتقداتها وتواريخها وثقافاتها. لقد شكل هذا الكتاب نقطة تحول حاسمة، حيث أعلن القطيعة مع الفكر الإسلامي الإصلاحي التحديثي الذي كان رائجًا في تلك الفترة. كما أنه عبر عن رفض قاطع للاتجاه المهيمن في الكتابات الإسلامية خلال النصف الأول من القرن الماضي وما سبقه. من الأمور الجديرة بالذكر أن هذا المؤلف القيّم لم يرَ النور من خلال دور النشر الدينية التقليدية التي كانت غالبًا ما تفتقر إلى الجاذبية في نظر القراء المعاصرين. بل صدر عن لجنة التأليف والترجمة والنشر المرموقة، التي كان يترأسها المفكر الكبير أحمد أمين، والتي كانت تعتبر بمثابة منارة ثقافية في مصر والعالم العربي. على الرغم من أن الكتاب، الذي ظهر في أواخر عام 1950 بمقدمة مقتضبة كتبها أحمد أمين، لم يلقَ استحسانًا أو اهتمامًا يذكر من قبل النخبة المثقفة والأدباء المصريين ذوي الميول التحررية، إلا أنه استُقبل بحفاوة بالغة من قبل جماعة الإخوان المسلمين، ومن قبل أصحاب الوعي الديني المتنامي في مصر. وقد تجلى ذلك بوضوح خلال زيارة قام بها العلامة أبو الحسن الندوي إلى مصر في مطلع عام 1951، أي بعد فترة وجيزة من نشر كتابه. ومن بين مظاهر التقدير والاحتفاء بالكتاب، طلب الدكتور محمد يوسف موسى، الأستاذ الموقر في كلية أصول الدين بالأزهر الشريف، من الندوي أن تتولى جماعة الأزهر للتأليف والترجمة والنشر، التي كان يرأسها آنذاك، مهمة إصدار طبعة ثانية من هذا العمل الهام. وقد تحققت هذه الأمنية في عام 1953، عندما صدرت الطبعة الجديدة مزينة بمقدمة بقلم المفكر الإسلامي البارز سيد قطب، ومقدمة أخرى بقلم الدكتور محمد يوسف موسى، ومقدمة ثالثة بقلم الشيخ أحمد الشرباصي. وبناءً على رغبة المؤلف، وتلبيةً لآراء العديد من رفاقه في الفكر والدين في مختلف أنحاء العالم العربي، تم حذف مقدمة أحمد أمين من هذه الطبعة، وذلك اقتناعًا منهم بأنها لم تضف قيمة للكتاب، بل ربما انتقصت من قدره. وقد تبنى هذا الرأي أيضًا شخصية سياسية مرموقة في العالم العربي، وهو الملك عبدالله بن الحسين. ففي اللقاء الأول الذي جمعه بأبي الحسن الندوي في عمان في عام 1951، أهداه نسخة من كتابه القيم. وفي اللقاء الثاني، دار بينهما حوار أشار فيه الملك إلى أن مقدمة أحمد أمين تضمنت "لمزات" أساءت إلى الكتاب، وأنه كان من الأجدر تجنبها. وأكد الملك أنه لا يمكن أن ينهض لكتابة مقدمة لهذا المؤلف إلا شخص يؤمن إيمانًا راسخًا بأن الإسلام وحده هو القادر على قيادة العالم، وأن الإنسانية لن تنعم بالسعادة إلا تحت راية حكمه وهدايته. جاءت كتابة سيد قطب لمقدمة الكتاب بناءً على طلب خاص من الندوي نفسه، وذلك خلال لقاء جمعهما في منزل قطب بحلوان، بمناسبة انعقاد ندوة علمية لمناقشة الكتاب. وقد وجه الندوي هذا الطلب إلى سيد قطب تحديدًا، لأنه كان قد اطلع على كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وأعجب أيما إعجاب بأسلوبه الفريد في الكتابة والبحث والعرض، والذي لم يصادفه في كتابات المفكرين الإسلاميين الآخرين. وفيما بعد، استعان سيد قطب بكتاب الندوي في مؤلفاته اللاحقة، وكثيرًا ما كان يعود إليه ويستشهد به. حظي كتاب الندوي باستقبال حافل وشعبية كبيرة في أوساط جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وهو ما تأكد من خلال زيارة قام بها المؤلف إلى هذا البلد الشقيق في منتصف عام 1951. وقد أشاد المفكر الإسلامي محمد المبارك بالكتاب، واصفًا إياه بأنه "واحد من خير الكتب التي صدرت في هذا القرن". وأضاف قائلاً للندوي: "كنا في بداية مسيرتنا نقرأ كتب الأستاذ فريد وجدي وغيره في الدفاع عن الإسلام، وكانت هذه الكتب تعتمد على الاستدلال والاستشهاد بأقوال المستشرقين، ولكن كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) جاء ليفند الحضارة الأوروبية من منظورها الخاص، ويكشف زيف معاييرها ومقاييسها". يرى الدكتور أحمد الموصللي في كتابه "الفكر الإسلامي المعاصر" أن الكثير من الأفكار التي تبناها الأصوليون تعود في جذورها إلى محمد أسد، معتبرًا إياه الأب الروحي للأصولية الحديثة. ويستند في هذا الرأي إلى حقيقتين أساسيتين، الأولى: أن محمد أسد كتب قبل المودودي وقطب والبنا، والثانية: أن الأصوليين تأثروا به واستشهدوا بأقواله في مؤلفاتهم، بل إن بعضهم اقتبس من كتاباته، مثل سيد قطب وأبي الأعلى المودودي. هذا الرأي يحمل في طياته قدرًا من الصحة، ولكنه في الوقت نفسه يفتقر إلى الدقة في بعض جوانبه. يمكن القول إنه صحيح، مع إضافة شاهد ثالث أغفله الموصللي، وهو أن أبا الحسن الندوي، الذي يُعد من الرعيل الأول المؤسس للفكر الإسلامي في طوره الأصولي، قد أشار إلى ذلك المعنى نفسه في موضعين مختلفين من كتابه "كتب وشخصيات"، الأول في معرض حديثه عن شخصية سيد قطب، والثاني عند تناوله لكتاب "الإسلام على مفترق الطرق". أما عدم الدقة في هذا الرأي، فيتجلى في إدراجه لأبي المودودي ضمن قائمة "الأبناء"، وفي ادعائه بأن أسد كتب قبل المودودي. فالمودودي شريك أساسي في "الأبوة" الفكرية للأصولية، والعديد من أفكارها الرئيسية ترجع في الأصل إليه أكثر مما ترجع إلى محمد أسد. فقد نشر محمد أسد كتابه باللغة الإنجليزية في عام 1934، بينما كان أبو الأعلى المودودي ينشر مقالاته بشكل متواصل في مجلته الشهرية "ترجمان القرآن" منذ عام 1932 وحتى عام 1938، والتي جمعت فيما بعد في كتاب بعنوان "التنقيحات" باللغة الأوردية في عام 1939. المنحى الأصولي في فهم الإسلام كان حاضرًا بقوة في مؤلفات المودودي منذ بواكير أعماله الفكرية، مثل كتاب "مصدر قوة المسلم" وكتاب "الجهاد في الإسلام" الذي بدأ في تأليفه عام 1926. تشير المعلومات المتوفرة عن بواكير مؤلفات المودودي وترجماته، والتي استقيناها من كتاب "أبو الأعلى المودودي: حياته ودعوته" للكاتب الباكستاني أليف الدين الترابي، إلى أنه كان يتمتع بذكاء خارق وموهبة فذة منذ نعومة أظفاره. وقد أكسبته هذه الموهبة المبكرة صفة فريدة من نوعها، حيث وصفه المستشرق البارز ولفرد كانتويل سميث في كتابه "الإسلام في التاريخ الحديث" بأنه "المفكر الشمولي الذي يمتلك جهازًا فكريًا كاملاً في الإسلام الحديث". وفيما يتعلق باختلافي الجزئي مع الدكتور الموصللي، فإنني أستند في هذا الخلاف إلى رأي العلامة أبي الحسن الندوي، الذي يصغر محمد أسد بأربعة عشر عامًا، والمودودي بأحد عشر عامًا، والذي كان على معرفة شخصية بهما، فضلاً عن كونه أحد المؤسسين الرئيسيين للفكر الإسلامي في طوره الأصولي. يشير أبو الحسن الندوي في كتابه "شخصيات وكتب" إلى أن الباحثين المسلمين في مصر والهند وتركيا وإيران، بعد منتصف القرن التاسع عشر، اتبعوا أسلوبًا يمكن وصفه بأنه "اعتذاري" أو "دفاعي". ثم يذكر أن تحولاً جذريًا قد حدث بعد ذلك، أولاً على يد محمد إقبال الذي وجد في شعره "كفرًا بالحضارة الغربية وتحديًا لزعمائها"، وثانيًا "وجد هذا اللون في كتابات مسلم جديد، هو الأستاذ محمد أسد، ومسلم قديم، هو الأستاذ أبو الأعلى المودودي". وفي كتابه "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية..."، يقول الندوي: "لا بد من الاعتراف بالدور الهام الذي قامت به الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان ومؤسسها أبو الأعلى المودودي في نقد الفكرة الغربية وتقويض الأسس الفلسفية المادية التي قامت عليها الحضارة الغربية". ثم يشير إلى أن محمد أسد النمساوي وبعض الكتاب المسلمين الآخرين قد قاموا بدور مماثل. يشير الندوي إلى الدور الذي قام به محمد أسد والمودودي على أساس أنهما دوران متلازمان ومتزامنان تاريخيًا. وكان الأجدر بالدكتور أحمد الموصللي أن ينظر إلى اقتباس المودودي من كتاب محمد أسد "الإسلام على مفترق الطرق" على أنه جاء من باب تعزيز وجهة نظره وإبراز أهمية الكتاب وإشاعة ذكره، وليس من باب التأثر به كما كان الحال مع سيد قطب والندوي، الذي أغفل الموصللي ذكره تمامًا، وتحدث عن كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" وغيره من الكتابات المؤثرة في التيار الإسلامي الراديكالي، وذلك في محاولة للتعتيم على مصدر استنتاجه، والادعاء بأنه صاحب الفكرة، على الرغم من أن الندوي قد اعترف صراحة بتأثره بمحمد أسد. وكان كتاب أسد المذكور آنفًا مصدر إلهام لسيد قطب. أذكر هذا التنويه لأن موضوع كتاب الموصللي "الفكر الإسلامي المعاصر" يتمحور حول الفكر الأصولي المعاصر، وذلك من خلال تحليل وشرح الأفكار التي نادى بها سيد قطب. إن محمد أسد الذي يرى الموصللي أن الأصوليين قد تأثروا به، تأثر هو نفسه، بعد إسلامه، بالإسلام الهندي وليس بالإسلام العربي. فالإسلام العربي في تلك الفترة لم يكن يزخر بالتنظيرات الفكرية التي قد تغري مثقفًا معاصرًا أو تضيف جديدًا إلى فكره، كما لم يكن يتوفر على تجربة سياسية يمكن أن تجسد مشروعه المثالي المتمثل في الحلم بدولة إسلامية أصولية حديثة، وهي الدولة التي راهن على إمكانية قيامها في باكستان وليس في السعودية! وقد تجلى هذا التأثر أيضًا في تحوله من إسلامية أصولية إلى إسلامية عقلانية متأثرة بالتيار الفكري السائد في الإسلام الهندي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة